منذ بداية آخر الحروب بين أوكرانيا وروسيا التي اعلنت فيها عن ضم مناطق في جنوب أوكرانيا وشرقها، افترض من كان ملفه تغطية الحرب في سوريا احتمالية فرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا دعماً للقوات الروسية، وتكرر هذا الافتراض عدة مرات. على سبيل المثال ظهرت مقالة خاصة بصنع القرار السياسي الأمريكي حيث ذكر كاتبها هذه الفكرة في العنوان والفقرة المبدئية. وأتذكر أنّ رجلاً عاملاً لصالح قناة البي بي سي العربية تواصل معي في شهر آذار وقال إنّه يريد أن يعمل على هذا الموضوع. ومنذ ذلك الوقت ظهرت العديد من التقارير التي ادعت فرز مقاتلين أو مستشارين سوريين الى أوكرانيا دعماً لجهود الحرب الروسية.
بالطبع أتفهم سبب الافتراض والاهتمام بهذا الموضوع، اذ قاتل المقاتلون السوريون لصالح الطرفين المتصارعين في ليبيا، وقامت تركيا بفرز مقاتلين سوريين الى منطقة ناغورنو كراباخ دعماً للقوات الأذربيجيانية خلال حربها مع أرمينيا. ونظراً للدعم الروسي للحكومة السورية خلال الحرب في سوريا، قد يكون من المعقول أن نتوقع أنّ روسيا ستريد أن تقوم الحكومة السورية ب"رد الجميل" من خلال السماح بفرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا. وقد نفسر بعض الخطاب الروسي في أيام الحرب الأولى على أنّها عبارة عن حشد روسيا لأعداد كبيرة من المقاتلين السوريين.
على الرغم من كل ذلك، إلا أنّه ينبغي لنا أن نقول إنّ التقارير لم تُخرج اي دليل مقنع على فرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا. بدلاً من هذا الدليل، اعتمدت التقارير الإعلامية على نقل الكلام من "مصادر" وإما لا نستطيع ان نتأكد من موثوقية المصادر وإما لا نستطيع أن نتأكد مما توفّره من معلومات. إنّ هذا الوضع على النقيض من الصراعات في ليبيا وناغورنو كراباخ، حيث قدّم المقاتلون السوريون الذين ذهبوا الى هذه المناطق شهاداتهم وتأكدت بحوث المصادر المفتوحة من تواجدهم في تلك الأماكن (ومن أجدر الأساليب ذكراً: تحديد الموقع الجغرافي في الفيديوهات). ولا نقول إنّ فرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا مستحيل، إلا أنّه ينبغي لنا أن نتساءل: اذا حدث هذا الفرز، فلماذا لم يتم اخراج دليل مماثل لحد الآن؟
في هذه المقالة سأركّز على قصة واحدة فيما يخص فرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا، حيث يقال على وجه التحديد إنّ تشكيل "صائدو داعش" شارك في فرز المقاتلين الى أوكرانيا، علماً انّ التشكيل تابع لشركة الصياد التي يقع مقرها في مدينة السقيلبية بريف حماه الشمالي. وتلقّى التشكيل الدعم من روسيا خارج اطار الفيلق الخامس ، وكما يتبين من اسمه، تم تأسيسه بهدف مكافحة داعش، مما شمل عمليات عسكرية ضد التنظيم في صحراء حمص ودير الزور. ومن اختصاصات التشكيل: حماية منشآت النفط والغاز، ويقال إنّ التشكيل فرز مقاتلين الى ليبيا من أجل القيام بمهمة مشابهة.
في تاريخ ٩ تشرين الثاني ٢٠٢٢، نشر لفنت كمال ورجب سيولو تقريراً في صحيفة "ميدل إيست أي" حيث زعما فرز المقاتلين السوريين الى أوكرانيا. قالا في التقرير:
أصدرت القناة الرسمية التابعة ل"صائدو داعش" على تلغرام دعوة واسعة الى المتطوعين، طالبة منهم أن يأتوا الى مقر التشكيل في حمص لكي يتم تسجيلهم من أجل القتال الى جانب الروس في أوكرانيا. علما أنّ "صائدو داعش" مجموعة مدعومة من قبل الروس وتم تأسيسها في عام ٢٠١٧ من أجل مكافحة داعش.
بالطبع أثار هذا الكلام اهتمامي لأنّني أتابع قناة صائدو داعش على تلغرام. ولكن البحث في هذه القناة لا يكشف أي اشارة الى أوكرانيا في اي منشور. بدلاً من ذلك، يعتمد تقرير كمال وسيلو على تقرير آخر منشور في "ميدل إيست أي" وهو بقلم داني مكي. وجاء في هذا التقرير:
دعا منشور على التطبيق المقاتلين الراغبين الى الحضور في مكتب التشكيل بتاريخ ١٧ و١٨ آذار، مؤكداً أنّ مرحلة الاستقطاب ستكون مفتوحة لمن يريد ان ينضم. ولم تشهد المناطق الصحراوية حول مدينة تدمر الشرقية والتي تعمل فيها مجموعات مثل صائدو داعش قتالاً حقيقياً منذ سنين. وعلى الرغم من عدم ذكر أوكرانيا في المنشور، إلا أنّ توقيت الدعوة الى التطوع مع تجميد الحرب في سوريا تقريباً يدلّ على أنّ الوجهة الأخيرة للمتطوعين ستكون ميادين أوكرانيا.
من ثم يذكر التقرير مصادر مثل موقع "السويداء ٢٤" الذي يدعي أنّ عناصر التشكيل سيتم فرزهم الى أوكرانيا مع اعادة تسميتهم ب"صائدو النازيين."
ولم يدعم اي دليل مقنع اي واحد من هذه الادعاءات. ومن المناسب أن ننظر فيها بشكل تفصيلي.
بدايةً، اليكم المنشورات الأصلية على قناة صائدو داعش
كما لاحظ مكي، لا توجد اشارة صريحة الى أوكرانيا في المنشورات، إلا أنّه يفترض أنّها قد تكون عبارة عن حملة التجنيد من أجل المهام في أوكرانيا لأنّ الحرب في سوريا "مجمدة تقريبا" والدعوة تم اصدارها في آذار.
ولكن هذا المنطق مجرد افتراض. نعم قد تكون الحرب في سوريا "مجمدة" بشكل عام من حيث الجبهات بين القوى الرئيسية التي تسيطر على أراضيها، إلا أنّ كل الأطراف في الحرب تواجه مشاكل حفظ الأمن في مناطق سيطرتها، مما قد يتطلب تجنيد المتطوعين الجدد أو تأسيس قوائم احتياطية، وذلك خاصةً عندما تجتمع المشاكل الأمنية والمشاكل الأخرى مثل دوران المتطوعين السابقين. وعلى وجه التحديد، تتعرض المناطق الصحراوية الحمصية التي من المفروض أن تكون مركز عمليات التشكيل، لمشاكل أمنية ناتجة عن أنشطة تنظيم داعش الذي لا يصدر إلا نادراً بيانات حول عملياته في هذه المناطق، ومن المحتمل أن يمسك التنظيم عن نشر هذه البيانات لأسباب أمنية (مع أنّ الاعلام المناصر للمعارضة والمسلحين يبالغ في حجم المشكلة). ومن الجدير بالذكر أنّ تنظيم داعش يعتبر "الحرب الاقتصادية" جزءً لا يتجزأ من استراتيجيته، ففي سياق المناطق الصحراوية الحمصية، تتعرض البنية التحتية والمنشآت الخاصة بالنفط والغاز لخطر الهجمات من قبل التنظيم.
لذلك لا تناقض حملة التطوع لصالح صائدو داعش القيام بمهام في سوريا. وفضلاً عن هذا التحليل، أشير الى نقطتين:
أولاً: في نهاية الاعلان عن الاستقطاب، يقال إنّ من اجتاز اختبار القبول "سيتم استدعاؤه للعمل في وقت لاحق عند الحاجة." لذلك من اجتاز الاختبار لم يكن من المقرر أن ينضم الى صفوف التشكيل على الفور، بل سينضم فقط في حال شعور التشكيل بحاجته الى تعزيز صفوفه، ولا يوجد اي جواب محدد على السؤال التالي: متى ستقوم الحاجة الى الاستدعاء؟ ولم يكن هناك اي دليل على ذلك الجواب لحد الآن حسب معرفتي. وعلى ما يبدو يشابه هذا الأسلوب حملة تطوع سابقة لصالح تشكيل صائدو داعش حيث كان المقبولون على السجلات لمدة أكثر من سنة (بحلول آذار ٢٠٢٢) ولم يستلموا اي استدعاء للعمل.
اذاً، فإنّ هذه الحملة للتطوع عبارة عن امكانية التجنيد لمن اجتاز اختبار القبول. باختصار شديد، يعبّر تشكيل صائدو داعش عن اهتمامه بالمتطوعين المحتملين فقط ولا أكثر من ذلك. وبرأيي لا ينسجم هذا الأسلوب مع حملة تطوع من أجل القتال في أوكرانيا التي كانت فيها الحاجة الى القوة البشرية اللازمة ماسةً منذ بداية الحرب. في المقابل، قد ينسجم الإعلان مع احتمالية الفرز الى ليبيا، إلا أنّه لا يوجد ما يؤكد ذلك من دليل.
ثانيا: يشير كل السياق المحيط بحملة التطوع الى أنّ عمليات تشكيل صائدو داعش جارية في سوريا حالياً. تقوم القناة الرسمية بنشر منشورات بشكل منتظم وهي تتناول كيفية استلام الرواتب الشهرية (التي تتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ دولار حسب معرفتي) في مناطق مختلفة من سوريا مثل اللاذقية وطرطوس وحماه وحمص.
أمّا الفكرة القائلة بأنّ تشكيل صائدو داعش ستتم اعادة تسميته ب"صائدو النازيين" وكل المعلومات المنقولة من موقع السويداء ٢٤ فيما يخص الفرز الى أوكرانيا، فلا يوجد اي دليل على هذه الادعاءات. وبالفعل أنا أعرف مقاتلاً في صفوف التشكيل. قال رداً على هذه الادعاءات.:
"الخبر منفي ولم تكن هناك اي مهمة على أوكرانيا. الخبر كذب."
وعندما ننظر في الصورة العامة، فعلينا أن نتأمل في الموضوع بشكل منطقي. اي: علينا أن نتساءل: اي دور يستطيع المقاتلون السوريون أن يلعبوه في الصراع فعلاً؟ هل يمكن فرزهم بأعداد كبيرة حتى يتغير سير الأحداث في الحرب؟ في الحقيقة تتضاءل الصراعات في ليبيا وناغورنو كراباخ بالمقارنة مع الحرب الأوكرانية التي يرجح فيها أنّ عشرات آلاف من الجنود التابعين لكل واحد من الطرفين المتصارعين ماتوا أو أصيبوا. لن يكون المقاتلون السوريون "وقوداً فعالاً" للحرب على الجبهات، ولن يكونوا قوة باقية في أوكرانيا على المدى البعيد حتى يصبحوا ورقة ضغط في مفاوضات مستقبلية.
بناءً على كل ذلك، فإنّني أقدّم النصائح التالية للإعلام:
أولا: لا تستحق النشر مقالة لا تنقل إلا كلام "المصادر" (سواء المجهولة أو غير المجهولة) التي تدعي فرز المقاتلين من دون امكانية التأكد من المعلومات.
ثاتياً: احذروا مما يظهر من حملات تطوع مزعومة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أنّ هذه الحملات تستهدف السوريين وتزعم فرص العمل في أوكرانيا أو غيرها. من خبرتي ومعرفتي بالموضوع، أقول إنّ هناك الكثير من الخدعة في هذه الحملات بهدف سرقة الأموال من الراغبين في التطوع.
ثالثاً: هناك حاجة الى دليل قاطع على فرز المقاتلين الى أوكرانيا. مثلا اذا قاتل السوريون في أوكرانيا، فهل نشر اي واحد منهم ما يثبت تواجده فيها من فيديوهات أو صور؟ وهل يمكن تحديد الموقع الجغرافي لهذه الفيديوهات والصور؟ وهل يمكن التواصل مع هؤلاء الناس؟