مقدمة الناشر (أيمن جواد التميمي): أثارت مسألة التعذيب في سجون <<المناطق المحررة>> مجادلة كبيرة خاصة بعد اعتقال بلال عبد الكريم وتوقير شريف من قبل الجهاز الامني التابع لهيئة تحرير الشام. فيكتب الشيخ أبو اليقظان المصري مقالة عن حكم تعذيب المتهم. كان الشيخ شرعياً في الهيئة سابقا والآن هو مستقل.
تعذيب المتهم
بقلم: أبو اليقظان محمد ناجي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كرّم الله سبحانه وتعالى بني آدم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وحرّم الاعتداء على المسلم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58]، وقرّر القصاص من المتعدي {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وعظّم النبيُ صلى الله عليه وسلم شأنَ الأبشار فشبّه حرمتها بحرمة اليوم والشهر والبلد؛ فقال صلى الله عليه وسلم يوم النحر من شهر ذي الحجة بمكة: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ)) [رواه البخاري]؛ وتوعد المُعتدي بالعذاب يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) [رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس.....)) [رواه مسلم]، يقول عروة رضي الله عنه: "مر هشام بن حكيم بن حزام بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس، وصب على رءوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج، فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا))". [رواه مسلم]، "وخطب عمر بن الخطاب في إحدى خطبه فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم وليأخذوا أموالكم، من فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقص منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده، ألا أقصه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه". [جامع الأصول – حسنه الأرناؤوط وضعفه الألباني في ضعيف سنن النسائي وأبي داود].
بادئَ ذي بَدءٍ؛ فإن الأصل براءةُ الذمة، وأمن المجتمع واستقراره يكمن في صيانة حقوق أبنائه، فلا يجوز التجسسُ أو التوقيف أو الحبس فضلًا عن الضرب أو الإهانة إلا ببيِّنةٍ شرعيةٍ أو بتهمةٍ معتبرةٍ، فالمصلحةُ المظنونة بتعذيب المتهم معارَضةٌ بمصلحةِ عصمةِ الأنفس.
ولتحرير محلِّ النزاع فسينتظم الكلام في نقاطٍ محددة:
- المتهمون صنوف.
- التوقيف نوعٌ من التعذيب.
- وللموقوف حقوقٌ.
- هل يجوز تعذيب المتهم ومن يحق له ذلك؟
- حُكم إقرارِ المُكرَه.
- نصائحُ للمحاكم الشرعية.
أولًا: المتهمون صنوف:
الناسُ ثلاثةُ أصناف: منهم من عُرف بالفضل والصلاح والسيرة الحسنة فهذا لا يجوز توقيفُه لمجرد التُّهمة، ولا يُمنع من سؤالِه، أو البحث والتحقُّق من التُّهمة الموجهة إليه، ومنهم مستور الحال، لا يُعرف بخير ولا شر، ومنهم من هو معروفٌ بالفجور وارتكاب الجرائم والموبقات؛ فهذان يجوز توقيفهما وسؤالهما للتوثق من حالهما، والتأكد من التهمة الموجهة إليهما، وإن توفرت الأدلة والقرائن في حق أصحاب السوابق من الصنف الثالث جاز التضييق عليهم لحملهم على الحق عقوبةً لهم وليس لإكراههم على الإقرار.
وتُعرفُ التهمة كما جاء في الموسوعة الفقهية: "التهمة في مجمل كلام الفقهاء: إخبار بحق لله أو لآدمي على مطلوب تعذرت إقامة الحجة الشرعية عليه في غالب الأحوال". [الموسوعة الفقهية الكويتية].
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان: "فإن كان المتهم بريئا ليس من أهل تلك التهمة فباتفاق العلماء لا يجوز عقوبته لا بضرب ولا بحبس، ولا بغيرهما... وأما إذا كان المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله... وأما إذا كان المتهم معروفا بالفجور مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها قبل ذلك، والمتهم بقطع الطريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفا بما يقتضي ذلك، فهذا يجوز حبسه". [النظام القضائي في الفقه الإسلامي]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف: صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم. فهذا لا يحبس، ولا يضرب؛ بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء؛ بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر.
والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة» وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق.
وإن وجد فاجرا كان من الصنف الثالث: وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار. والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي -كما قال أشهب صاحب مالك وغيره- حتى يقر بالمال.....". [الفتاوى الكبرى].
وقال علي بن خليل الطرابلسي الحنفي: "أن يكون المتهم مجهول الحال عند الحاكم والوالي لا يعرفه ببر ولا فجور، فإذا ادعى عليه تهمة فهذا يُحبس حتى ينكشف حاله، هذا حكمه عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي". [مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام].
والحبس يكون حسب الدعوى فهناك دعاوى تهمة ودعاوى غير تهمة؛ في تفصيل مبسوط في مظانه من كتب الفقهاء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالدعاوى قسمان: دعوى تهمة وغير تهمة. فدعوى التهمة أن يدعي فعلا يحرم على المطلوب يوجب عقوبته؛ مثل قتل؛ أو قطع طريق أو سرقة؛ أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفي به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة. وغير التهمة أن يدعي دعوى عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم؛ مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع أو قرض أو صداق أو دية خطأ أو غير ذلك". [الفتاوى].
ثانيًا: التوقيف نوعٌ من تعذيب المتهم:
لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا خليفتُه رضي الله عنه سجنٌ وإنما اتخذه من بعدهما عمر رضي الله عنه فاشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف وجعلها حبسًا.
ويظل التوقيفُ -وإن كان مشروعًا إن دعت له الحاجة- نوعًا من التعذيب؛ فقد قرن الله تعالى بين السجن وبين العذاب فقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [يوسف: 25]، فالحبس مؤلم بذاته، سواء طالت مدته أم قصرت؛ قال الشاطبي: "وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم، وإن كان السجن نوعا من العذاب". [الاعتصام].
فحبس الاستظهار، لمتهم مستور الحال أو معروف بالفجور احتياطيًا في حال وجود أدلة وقرائن قوية ضده، جائزٌ شرعًا لمصلحة التحقيق وحقوق العباد وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة لعموم الأدلة على ذلك ومنها ما رواه أحمد وغيره وحسنه الألباني في الإرواء عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: ((أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم، ..)).
جاء في الموسوعة الفقهية: "والحبس استيثاقا بتهمة هو: تعويق ذي الريبة عن التصرف بنفسه حتى يبين أمره فيما ادعي عليه من حق الله أو الآدمي المعاقب عليه. ويقال له أيضا حبس الاستظهار ليكتشف به ما وراءه". [الموسوعة الفقهية الكويتية]
يقول ابن القيم معرفا الحبسَ: "هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه وملازمته له ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرا". [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية]، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم مجرد التعويق من الحركة أسرًا كما في حديث الهرماس بن حبيب عن أبيه قال "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال الزمه ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟" [أخرجه أبو داود وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود]، فحبس المتهم في مكان ومنعه من التصرف بنفسه حيث شاء وقطعه عن مألوف حياته نوعٌ من التعذيب والقهر، ولونٌ من ألوان الإيذاء والإهانة؛ فإن تعويقه من الخروج إلى أعماله الدنيوية من عمل وسفر وبيع وشراء ونحوها، ومنعه من واجباته الدينية من شهود الجمعة والجماعات وغيرها، ومنعه من علاقاته الاجتماعية من تزاور وحضور أعياد وأفراح وأتراح؛ كل هذا يؤلم قلبه ويُحزن نفسه.
ولا يكون حبس الاستظهار إلا ببينة كالشمس في رابعة النهار؛ يقول عبد الله بن أبي عامر: "انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي، ومعنا رجل يتهم، فقال أصحابي: يا فلان، أد عيبته، فقال: ما أخذتها، فرجعت إلى عمر بن الخطاب فأخبرته فقال: «كم أنتم؟» فعددتهم، فقال: «أظنه صاحبها الذي اتهم» قلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين أن آتي به مصفودا، قال: «أتأتي به مصفودا بغير بينة، لا أكتب لك فيها» ولا أسأل لك عنها قال: فغضب، قال: فما كتب لي فيها ولا سأل عنها". [مصنف عبد الرزاق الصنعاني]، فأنكر أمير المؤمنين رضي الله عنه أن يُصفد أحدٌ بغير بينة.
ثالثًا: وللموقوف حقوقٌ:
إذا تم حبس المتهم استظهارًا ليستكشف به عما وراءه؛ فيجب أن يُعطى جميع حقوقه بدءً من اعتباره بريئًا وعدم نسبة التهمة له حتى يثبت جُرمُه، وتجب المسارعة بالنظر في أمره فإن كان مذنبًا أُخذ بذنبه، وإن كان بريئًا أُطلق سراحه، ويحصل على حقوقه الإنسانية؛ البدنية والنفسية؛ فينبغي أن يكون مكان الحبس لائقًا ومناسبًا، فلا يوضع في حبس انفرادي، ويُطعم كفايته حسب القدرة، ويُنفَق عليه، ويُسمح له بممارسة حياته المعتادة من عبادةٍ ومطالعة ورياضة ونحو ذلك ولا يُمنع من التواصل مع أهله وزيارتهم له واطلاعهم على سير قضيته، ويسمح له بالدفاع عن نفسه وتقديم الأدلة والبراهين على براءته من التهمة ويمكنه توكيل من يقوم بالمرافعة عنه إن أراد ذلك، ويكون التحقيقُ معه بما يتوافق مع إنسانيتِه وكرامته ووفق الأصول الشرعية.
يقول الشيخ التويجري: "وينبغي أن يكون السجن واسعاً، وأن يعطى كل واحد من المساجين كفايته من الطعام واللباس، ويحرم إذلال السجين وإهانته بقول أو فعل؛ لما فيه من إهدار كرامته ومنع السجين ما يحتاج إليه من الطعام واللباس ونحوها من الحقوق جَور يعاقِب الله عليه مَنْ فَعَله حتى ولو كان حيواناً". [موسوعة الفقه الإسلامي].
رابعًا: هل يجوز تعذيب المتهم ومن يحق له ذلك؟
المقصود بالتعذيب أدنى ما قد يتعرض له المتهم من أذى، سواء كان نفسيا أو بدنيا؛ بالحبس أو التخويف أو السب أو التجويع أو التقييد أو العزلة أو الضرب أو السحب والجر على الأرض...
وكما سبق معنا في صنوف المتهمين؛ فالصنف الأول لا يجوز حبسه، وأما الصنف الثاني ممن يجوز حبسه ممن وقعت فيه الرِّيبة فلا يجوز إيذاؤه بضربٍ أو غيره لإلجائه إلى الإقرار، وأما الصنف الثالث المعروف بالفجور والإجرام من أصحاب السوابق فيجوز حبسه، ولا يجوز إيقاع الأذى عليه بضرب أو غيره إلا إن وجدت قرائن وأدلة تؤكد ذات التهمة التي اشتهر بإجرامه فيها؛ قال الماوردي: "للأمير أن يراعي شواهد الحال، وأوصاف المتهوم في قوة التهمة وضعفها، فإن كانت التهمة زنا، وكان المتهوم مطيعًا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت" [الأحكام السلطانية].
فلا يحل ضرب هذا الصنف الثالث من المجرمين لمجرد اشتهاره بالفساد ولكن لوجود أدلة واضحة تدينه، ويكون ذلك تحت إشراف قضائي حتى تنتفي شبهة التشفي والانتقام، ولا يوكل التعذيب للمحققين ورجال الشرطة والأمنيين، ويكون التعذيب بقدره؛ فيكفيه السوط على الظهر، ولا يبالغ في التعذيب؛ فلا يهين نفسًا بسب وشتم، ولا يقطع لحما، ولا يكسر عظما، ولا يضرب وجها ولا رأسا ولا يكشف عورة، ولا يتشبه بالطغاة في وسائل التعذيب المحرمة مثل: (الحبس الانفرادي لمدة طويلة - إطفاء السجائر في جسد المتهم - الصدمات الكهربائية - التهديد بالاعتداء الجنسي على المتهم أو أقاربه – إسماعه صراخ متهمين آخرين أثناء تعذيبهم - التهديد بقتل المتهم.- منع المتهم من دورات المياه لفترات طويلة – تغطية العيون لفترة طويلة ....إلى غير ذلك من أساليب الطغاة في السجون).
ورغم اشتهار القول بتعذيب أهل التُهم من الصنف الثالث في كتب أهل العلم كقول المالكية في الشرح الكبير: "إن ثبت عند الحاكم أنه من أهل التهم فيجوز سجنه وضربه" [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير]، وقول الشاطبي: "فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار" [الاعتصام].
ويقول ابن عاصم المالكي في تحفة الحكام:
ومن على الأموال قد تقعددا فالحبس والضرب الشديد سرمدا.
إلا أن أدلتهم لا تخلوا من مقال في السند أو الاستدلال ونذكر على سبيل المثال أشهر ثلاثة منها:
- تعذيب الزبير بن العوام لعم حيي بن أخطب:
"اشترط النبي صلى الله عليه وسلم على يهود خيبر أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا، فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟»، فقال: أذهبته النفقات والحروب فقال صلى الله عليه وسلم: «العهد قريب والمال أكثر من ذلك»، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الزبير بن العوام، فمسه بعذاب" [السنن الكبرى للبيهقي].
- عبارة (فمسّه بعذاب) مختلفٌ في ثبوتها.
- الحديث دليل على جواز العمل بالقرينة ولا يدل على جواز التعذيب للإقرار بالتهمة، فالتهمة قد ثبتت بالقرينة وجاء التعذيب عقوبة بمقتضاها لرجل محارب ناقض للعهد.
قال ابن تيمية معلقًا على حديث الزبير: "فهذا أصل في ضرب المتهم الذي علم أنه ترك واجبا أو فعل محرما". [الفتاوى]
وقال ابن القيم: "ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به، في قصة ابن أبي الحقيق". [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية].
وعن ابن جريج، قال: "كتب عمر بن عبد العزيز بكتاب قرأته: " إذا وجد المتاع مع الرجل، فقال: ابتعته، فلم يقطعه، فاشدده في السجن وثاقا ولا تخله بكلام أحد حتى يأتي فيه أمر الله ". [المصنف في الأحاديث والآثار لأبي بكر بن أبي شيبة].
- تعذيب الغلام في غزوة بدر:
"ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان، وأصحابه، فيقول: ما لي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم، أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه، فقال ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، في الناس، فإذا قال هذا أيضا ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف، قال: «والذي نفسي بيده، لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم»". [رواه مسلم].
- هذه الحادثة وقعت في ظروف حرب مع أسير.
- وقد نعى النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه ضرب الغلام.
- تهديد الظعينة بإلقاء الثياب:
يقول علي رضي الله عنه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها". [رواه البخاري].
- ما حدث مع هذه المرأة ليس نوعاً من التعذيب أو الإكراه للوصول إلى الإقرار؛ فالتهمة ثابتة عليها بالوحي الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
- التهديد بإلقاء الثياب للتفتيش ليس من العذاب بل هو نوعٌ من العقاب لمن جحد حقًا حتى يؤدي ما عليه؛ فقد كانت في مهمة تضر الجيش المسلم.
فتبين مما سبق أن جواز تعذيب أصحاب السوابق المعروفين بالفجور يجوز؛ عقوبةً لهم في حدود ضيقة إن وجدت القرائن والأدلة، وتقدر هذه الأدلة بقدرها، قال ابن القيم: "وجعل الصحابة رضي الله عنهم الحبل علامة وآية على الزنا فحدوا به المرأة وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها: آية وعلامة على شربها، بمنزلة الإقرار والشاهدين.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أو تسعا: آية وعلامة على كونهم ما بين الألف والتسعمائة، فأخبر عنهم بهذا القدر بعد ذكر هذه العلامة.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم كثرة المال وقصر مدة إنفاقه: آية وعلامة على كذب المدعي لذهابه في النفقة والنوائب في قصة حيي بن أخطب، وقد تقدمت وأجاز العقوبة بناء على هذه العلامة، واعتبر العلامة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم بالسلب لأحد المتداعيين، ونزل الأثر منزلة بينة.
واعتبر العلامة في ولد الملاعنة، وقال: «أنظروها، فإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به» فأخبر أنه للذي رميت به لهذه العلامات والصفات، ولم يحكم به له، لأنه لم يدعه، ولم يقر به، ولا كانت الملاعنة فراشا له". [الطرق الحكمية].
يقول الدكتور عبد الله مبروك النجار في خلاصة ما توصل إليه، بعد أن استطرد في ذكر خلاف الأئمة ونقد أدلتهم: "ومن خلال بيان أدلة كل قول وما ورد عليها من مناقشات يستبين لنا رجحان ما ذهب إليه رأي الجمهور القائل: بأنه لا يجوز تعذيب المتهم للإقرار بالتهمة، وهو ما نرجحه ونطمئن إليه، وإذا كان حكمه كذلك يكون حراماً، ومن ثم فإنه يفسد الإقرار بالتهمة فلا يصلح معه لأن يترتب عليه أي أثر من جهة إدانة المقر أو غيرها، والله أعلم، وهو سبحانه وتعالى الموفق والمعين، والهادي إلى سواء السبيل". [حكم التعذيب للإقرار بالتهمة دراسة فقهية في الفقه الإسلامي].
خامسًا: حُكم إقرارِ المُكرَه:
يقول الدكتور دياب سليم محمد عمر: "الإكراه في اللغة: الحمل على الشيء قهرًا، وتعريف الإكراه اصطلاحًا: حمل الغير على ما لا يرضاه من قول أو فعل". [الإكراه وأثره على الأهلية]
وإقرار المكره لا يُعتد به سواء أكان ملجئا أم غير ملجئ لانتفاء الاختيار؛ والإكراه الملجئ أن يكون المكره كالآلة لا فعل له مثل السكين، والإكراه غير الملجئ أن يكره على فعلٍ أو قولٍ بالتهديد ويغلب على ظنه أن المهدِد يقدر على التنفيذ.
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان: "من شروط الإقرار: الاختيار، فلا يصح إقرار المكره بما أكره عليه، قال تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فقد جعل الله عز وجل الإكراه مسقطا لحكم الكفر، فيكون ما عداه أولى". [النظام القضائي في الفقه الإسلامي].
وليُنتبه على أن القول بجواز المس بعذاب لأصحاب السوابق إنما هو حملٌ لهم على الحق وليس إكراها على الإقرار. "قال الشيخ تقي الدين: السلطان هو الحاكم كما ترجم الخلال، والتهديد من الحاكم إنما يكون على أن يقول الحق، لا على أن يقر، مثل أن يقول: اعترف بالحق، أو إن كذبت عزرتك، أو إن تبين لي كذبك أدبتك، فيهدده على الكذب والكتمان، ويأمره بالصدق والبيان، فإن هذا حسن، فأما إن كان التهديد على نفس الإقرار فهذا أمر بما يجوز أن يكون حقا وباطلا ومحرما، فالأمر به حرام، والتهديد عليه أحرم، وهو مسألة الإكراه على الإقرار، ففرق بين أن يكرهه على قول الحق مطلقا، أو على الإقرار" [الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية لدى تلاميذه].
يقول الدكتور عبد الله مبروك النجار: "استبان لنا مما سبق أن الفقهاء متفقون على أن التهمة إذا كانت مجردة من القرينة المرجحة لجانب الإدانة في المتهم، فإنه لا يجوز ممارسة أدنى قدر من التعذيب معه، وإذا حدث وصدر الإقرار تحت وطأة الضغط أو الإكراه أو التعذيب، فإنه يكون هدرا ولا يعتد به، بل ولا يترتب عليه أثر من جهة الحكم بالعقوبة المقررة أو الحكم اللازم". [حكم التعذيب للإقرار بالتهمة دراسة فقهية في الفقه الإسلامي].
والخلاصة:
أنه لا يجوز تعذيب المتهم المعروف بالفجور فضلا عن غيره؛ إلا إن توفرت الأدلة والقرائن في تورطه، وبعد استفراغ الجهد في التحقيق والاحتيال عليه، ويكون ذلك بإشراف قضائي لحمله على الحق، وإن أكرِه المتهم على إقرار بجريمة فلا يُعتد بهذا الإقرار حتى يكون مختارا في اعترافاته.
سادسًا: نصائحُ للمحاكم الشرعية:
المشكلة العامة التي تعاني منها المحاكم الشرعية في الأراضي المحررة منذ إزالة حكم نظام بشار الأسد عنها هي تسييس القضاء وخروج كثير من القضايا والملفات الهامة عن سيطرة السلطة القضائية؛ تارة بحجة الفصائلية وتارة بحجة العمل الأمني وتارة بحجة الأحكام السلطانية وتارة بحجة ذوي الهيئات من القيادات أصحاب النفوذ؛ رأيت ذلك جليا في حلب في الهيئة الشرعية ثم المؤسسة الأمنية وفي القضاء الموحد ودور القضاء والهيئة الإسلامية؛ حيث كانت كثير من القضايا التي تهم الرأي العام تُعقد لها لجان قضائية أو ينفرد بها أحد الفصائل بعيدا عن أروقة المحاكم، وهكذا تدخل القضية طي الكتمان فيأمن العاملون في تلك القضايا من العقوبة والملاحقة فتتدخل فيها الأهواء وتكثر فيها التجاوزات؛ من حبس احترازي يصل إلى شهور وأحيانا سنوات بدون محاكمة، ومن مبالغة في التعذيب بلا ضوابط ولا إذن قضائي، وإن تم الإفراج عن المتهم يجبرونه على توقيع تعهد خطي بأمور لا تلزمه شرعا وعلى رأسها ألا يذكر ما حدث معه من تعذيب في السجن وأثناء التحقيقات.
ولم تكن حماة وإدلب ولا الغوطة وحمص ودرعا أحسن حالا من وضع حلب.
ولا تزال هذه المشكلة حاضرة في القضاء في الأراضي المحررة لحين كتابة هذا المقال، فأغلب التجاوزات في حبس المتهمين وطول فترة حبسهم وتعذيبهم تكون فيما خفي عن الرقابة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" [رواه مسلم]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" [أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وصححه الأرناؤوط والوادعي]، وهذا يحدث فيما يُسمى القضاء الأمني والقضايا المتعلقة بالأحكام السلطانية، أما باقي المحاكم فتندر فيها هذه التجاوزات ويستحيل أن يقع التعذيب فيها إلا بإذن قضائي.
لذا ننصح بوضع قانون إجراءات معتمد لا يخالف الشريعة الإسلامية، يضبط عمل القضاء في كل مراحله وعلى كل مستوياته وتخضع له كل المحاكم وجميع القضايا ويشمل كافة العاملين في المنظومة القضائية؛ فيخضع له قضاء الحسبة وقضاء المظالم والمحاكم الأمنية والعسكرية.
ومن أهم ما يكفل تحقيق العدالة والمساواة:
- منع التعذيب وتجريمه وتوقيع عقوبات على المتجاوزين.
- منع السجن الانفرادي إلا ما تدعو إليه ضرورة التحقيق ويكون لمدة قصيرة يحددها القاضي.
- أن يُعطى المتهمون كامل حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم والاطلاع على ملفات القضايا وتوكيل من ينوب عنهم في ذلك إن أرادوا.
- نشر أحكام قضايا الرأي العام وقضايا ذوي الهيئات من قيادات المجتمع في وسائل الإعلام ولا حرج في نشر بعض جلساتها ليطلع عليها عامة المجتمع.
- تكوين لجان تقصي الحقائق التي تحوي التخصصات اللازمة في المعاينات ودراسة القرائن والأدلة.
- العناية بالسجون من حيث السعة والتهوية وتعرُّض المساجين للشمس وملئ أوقاتهم بالأنشطة الدعوية والأعمال المهنية وتشجيعهم على حفظ القرآن الكريم ومدارسته بتخفيف الأحكام لمن يحفظ.